هو قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن الأمير أبو حفص الباهلي، قائد إسلامي شهير من كبار القادة الذين سجلهم التاريخ؛ فعلى يديه فُتحت هذه البلاد التي تُسَمَّى اليوم بالجمهوريات الإسلامية، التي انفصلت عما كان يُسَمَّى بالاتحاد السوفيتي، وتوغَّل حتى حدود الصين، وتدين كثير من هذه البلاد بدين الإسلام، قُتل سنة 96 هـ، وعمره 48 سنة.
نشأة قتيبة بن مسلم
أبوه مسلم بن عمرو من أصحاب مصعب بن الزبير والي العراق من قِبَل أخيه أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وقاتل معه في حربه ضد عبد الملك بن مروان سنة (72هـ= 692م)، وُلِدَ قتيبة بن مسلم في بيت إمارة وقيادة سنة (49هـ= 669م) بأرض العراق، ولمَّا ترعرع تعلَّم العلم والفقه والقرآن، ثم تعلَّم الفروسية وفنون الحرب وقد نشأ قتيبة بن مسلم–رضي الله عنه- على ظهور الخيل رفيقًا للسيف والرمح، محبًّا للفروسية، وكانت منطقة العراق مشهورة بكثرة الفتن والثورات؛ لذلك عمل كلُّ ولاة العراق على شغل أهلها بالغزوات لاستغلال طاقاتهم الثورية في خدمة الإسلام ونشر الدعوة؛ لذلك كانت أرض العراق هي قاعدة الانطلاق للحملات الحربية على الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية، وقد اشترك قتيبة في هذه الحملات منذ شبابه المبكِّر، وأبدى شجاعة فائقة وموهبة قيادية فذَّة، لفتت إليه الأنظار خاصة من القائد العظيم الملهب بن ابي صفرة، وكان المهلب خبيرًا في معرفة الأبطال ومعادن الرجال؛ فتفرَّس فيه أنه سيكون من أعظم أبطال الإسلام، فأوصى به لوالي العراق الشهير الحاج بن يوسف الثقفي، الذي كان يحبُّ الأبطال والشجعان، فانتدبه لبعض المهامِّ ليختبره بها ويعلم مدى صحَّة ترشيح المهلب له. ثم ولَّاه عبد الملك بن مروان مدينة الرَّيِّ، وولَّاه -أيضًا- خراسان، وقد كانت حينها من أعمال العراق يوم ذاك، وهي تحت إمرة الحجاج، فلم يعبأ بشيء سوى الجهاد، فلمَّا وصل خراسان سنة (86هـ= 705م) علا بهمَّته إلى حرب بلاد ما وراء النهر، وأقام بخراسان ثلاث عشرة سنة.
وعندما قام المسلمون الأوائل بحركة الفتح الإسلامي في الشرق، كان هناك نوعان من الأجناس البشرية تسكن هذه المنطقة؛ القبائل الساسانية أو الفارسية والقبائل التركية، وكان نهر المرغاب هو الحدّ الفاصل بين هؤلاء وهؤلاء، وقد تمَّ إدخال القبائل الفارسية في الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين، أمَّا القبائل التركية فقد كانت أكبر عددًا وأوسع انتشارًا؛ منهم: الأتراك الغزية، والأتراك القراخطاي، والأتراك القوقازيون، والأتراك الإيجور، والأتراك البلغار، والأتراك المغول. وقد كان لفتح قتيبة أثرٌ كبير في إدخال الأتراك شرقي نهر المرغاب وبلاد ما وراء النهر في الإسلام.
فتوحات قتيبة بن مسلم
بدأ قتيبة بن مسلم فتوحاته سنة (86هـ= 705م)، وذلك عندما ولَّاه الحجاج بن يوسف الثقفي ولاية خراسان؛ وهو إقليم شاسع مترامي الأطراف، لم يكن المسلمون قد واصلوا الفتح بعده، وكان المهلب بن أبي صفرة واليًا على خراسان من عام 78هـ حتى عام 86هـ، وقد رأى الحجاج أن يدفع بدماء شابة جديدة في قيادة المجاهدين هناك، فلم يجد أفضل من قتيبة بن مسلم لهذه المهمَّة.
سار قتيبة بن مسلم على الخطَّة نفسها التي سار عليها آل المهلب، وهي خطة الضربات السريعة القوية المتلاحقة على الأعداء، فلا يترك لهم وقتًا للتجمُّع أو التخطيط لردِّ الهجوم على المسلمين، ولكنَّه امتاز عن آل المهلب بأنه كان يضع لكل حملة خطَّة ثابتة لها هدف ووجهة محدَّدة، ثم يُوَجِّه كلَّ قوَّته للوصول إلى هدفه.
استعرض قتيبة بن مسلم جيشه، وابتدأ مسيرته إلى فتح الشرق كله، ففتح المدائن مثل خوارزم وسجستان، حتى وصل إلى سمرقند، فحاصرها حصارًا شديدًا حتى صالحه أهلها على أموال كثيرة جدًّا، وفطن له الصُّغْد فجمعوا له الجموع؛ فقاتلهم في شُومان قتالاً عنيفًا حتى هزمهم، وسار نحو بِيكَنْد وهي آخر مدن بُخَارَى، فجمعوا له الجموع من الصُّغْد ومَنْ وَالَاهُم فأحاطوا به من كل مكان، وكان له جواسيس من الأعداء يمدُّونه بالأخبار, فأعطاهم الأعداء أموالًا طائلة ليصدُّوا عنهم قتيبة؛ فجاءوا يُثَبِّطونه عن قتالهم فقتلهم، ثم جمع الجيش وخطبهم وحثَّهم على القتال؛ فقاتلوا أشدَّ القتال، وفتحوا الطوق وغنم منها أموالًا لا تُحصى، ثم اتَّجه ناحية الصين، فغزا المدن التي في أطرافها وانتصر عليها، وضرب عليهم الجزية، فأذعنت له بلاد ما وراء النهر كلها حتى وصل إلى أسوار الصين.
استراتيجية قتيبة بن مسلم في الغزوات
قام قتيبة بن مسلم –رضي الله عنه- بتقسيم أعماله إلى أربع مراحل، حقَّق في كل واحدة منها فتح ناحية واسعة فتحًا ثَبَّت فيه أقدام الدولة الاموية وما تابعها من دول إسلامية ردحًا طويلاً من الزمن؛ وهي كالآتي:
المرحلة الأولى: قام فيها قتيبة بحملته على طَخارستان السفلى فاستعادها وذلك سنة 86هـ، وطَخارستان السفلى هي الآن جزء من أفغانستان وباكستان.
المرحلة الثانية: قاد فيها حملته الكبرى على بخارى (تقع الآن في أوزبكستان) فيما بين سنتي (87- 90هـ)، وخلالها أتمَّ فتح بخارى وما حولها من القرى والحصون، وكانت أهمَّ مدن بلاد ما وراء النهر وأكثفها سكانًا وأمنعها حصونًا.
المرحلة الثالثة: وقد استمرَّت فيما بين سنتي (91- 93هـ)، وفيها تمكَّن قتيبة من نشر الإسلام وتثبيته في وادي نهر جيحون كله، وأتمَّ فتح إقليم سجستان في إيران الآن، وإقليم خوارزم، ووصلت فتوحاته إلى مدينة سمرقند في قلب آسيا، وضمَّها إلى الدولة الأموية.
المرحلة الرابعة: وقد امتدَّت فيما بين سنتي (94- 96هـ)، وفيها أتمَّ قتيبة بن مسلم فتح حوض نهر سيحون بما فيه من مدن، ثم دخل أرض الصين وأوغل فيها، ووصل مدينة كاشغر وجعلها قاعدة إسلامية، وكان هذا آخر ما وصلت إليه جيوش إسلامية في آسيا شرقًا، ولم يصل أحد من المسلمين أبعد من ذلك قط.
وفاة قتيبة بن مسلم
حارب قتيبة ثلاث عشرة سنة لم يضع فيها السلاح، وقد كان قتيبة بن مسلم من قادة الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فقد كان يعلم مقدار كراهية سليمان بن عبد الملك للحجاج، فلمَّا ولي الخلافة خشي قتيبة من انتقامه؛ لأنه وقف إلى جانب الوليد بن عبد الملك حين أراد أن يخلع أخاه سليمان من ولاية العهد ويجعلها لابنه؛ ولذلك عزم قتيبة على الخروج على سليمان، وجمع جموعًا لذلك من رجاله وأهل بيته، لكنَّ حركته فشلت، وانتهت بقتله في بلد اسمها فرغانة سنة (96هـ= 715م) على يد وكيع بن حسان التميمي، وقيل: إنه لم يتمرَّد، ولكن وقع ضحية مؤامرة حاكها بعض الطامعين بالولاية.